غزة- جحيم الحصار، صمود الإرادة، وأمل الفجر.

المؤلف: محمد يوسف حسنة10.06.2025
غزة- جحيم الحصار، صمود الإرادة، وأمل الفجر.

في قلب غزة الصامدة، حيث تتلاطم أمواج الأحلام على شواطئ الواقع القاسي، تتجسد مآسٍ تفوق الوصف. عيونٌ دامعة تشهد على صورٍ مروعة لا تمحى من الذاكرة. أطفالٌ أبرياء يفترشون الأرض القاحلة، يتوسدون السماء التي تمطر عليهم نارًا من صواريخ الطائرات الغادرة. طفلةٌ صغيرة ترقد في زاوية مظلمة من المستشفى، تنتظر بصيص أمل يلوح في الأفق المجهول، بينما الأطباء الأبطال يقفون مكتوفي الأيدي، لا يملكون دواءً يشفي الجراح ولا معدات تخفف وطأة الألم.

أبٌ مفجوع يجمع أشلاء ابنته الغالية، التي تناثرت بين مستشفيين متباعدين، بعد أن وعدها بحذاء جديد. جنينٌ بريء قُتل في رحم أمه الشهيدة، التي كانت تحلم بمستقبل مشرق لها ولوليدها بعد انتهاء الحرب اللعينة. ولكن صاروخًا حاقدًا اختطف أرواحهما الطاهرة دون سابق إنذار، قبل حتى أن يتمكنا من تذوق وجبة الإفطار! في هذه البقعة المنكوبة، حيث نُهبت الأحلام و اغتيلت الابتسامات البريئة، لا يجد الناس سوى الصبر سلاحًا والإيمان حصنًا منيعًا يتكئون عليه في مواجهة حصار جائر وحرب ضروس حولت حياة أهلها إلى جحيم لا يطاق.

غزة، تلك البقعة الجغرافية الضيقة التي ترزح تحت وطأة حصار مطبق من كل الجهات، يشترك فيه العربي المتخاذل والعدو المتغطرس، تعيش في ظل حصار ظالم لا يعرف الرحمة منذ سبعة عشر عامًا. كل شيء في هذه الأرض الطيبة يخضع لقيود المحتل الغاشم، من الماء إلى الدواء، ومن الغذاء إلى الكهرباء. مئة بالمئة من سكانها يعتمدون على المساعدات الإنسانية، وأكثر من خمسة وثمانين بالمئة منهم يعيشون نازحين في وطنهم. هؤلاء النازحون الأبرياء يبحثون عن مأوى آمن بين أنقاض منازلهم المدمرة، وفي مساحة ضيقة لا تتعدى ستة وثلاثين بالمئة من مساحة القطاع، ولكن الحصار الخانق يحرمهم من المأوى الحقيقي والأمان والاستقرار المنشود.

حصارٌ جائر أدى إلى تدهور القطاع الصحي في غزة وعجزه عن تلبية احتياجات المرضى والمصابين. مستشفياتٌ أُخرجت عن الخدمة، والمستشفيات العاملة تعمل بقدرة محدودة للغاية، وتفتقر إلى الطواقم الطبية الكافية والإمكانات اللازمة، بينما يتكدس المرضى الذين يحتاجون إلى عمليات جراحية عاجلة دون أمل في الحصول على العلاج المناسب. الأطباء الأبطال، الذين يقاتلون ببسالة من أجل إنقاذ الأرواح، يقفون على حافة الانهيار؛ نظراً للنقص الحاد في المعدات الطبية والأدوية التي لا تكفي حتى لعلاج جرح واحد. لقد تحولت المستشفيات إلى مسارح للألم والمعاناة، حيث يموت المرضى ببطء، وهم يدركون أن الأمل أصبح سرابًا بعيد المنال.

في خضم هذا الجحيم ووسط أتون الحصار، يقف العاملون في مجال الإغاثة كرموز للإنسانية التي لا تعرف اليأس. أكثر من مئة وخمسين من هؤلاء الأبطال الـمضحين فقدوا حياتهم، وهم يحاولون جاهدين إيصال الغذاء والماء للنازحين والمحتاجين، وتوفير المأوى للمشردين، وإعادة ترميم المستشفيات وحفر الآبار. استشهدوا تحت القصف وهم يحملون على عاتقهم رسالة نبيلة: "إنقاذ الأرواح". لقد قدموا خدمة جليلة لمجتمعهم والفئات الضعيفة والمهمشة، فضحوا بحياتهم في سبيل الآخرين، غير آبهين بآلة القتل والبطش التي يمارسها الاحتلال، وغير مكترثين بحملات التشويه والتشهير التي تشنها أذناب الاحتلال.

على الرغم من كل هذه التحديات، تظل المساعدات تصل ببطء شديد، فالاحتلال يتحكم في كل شريان ينبض في غزة ويغلق المعابر متى شاء، ليترك الشعب يعاني من الجوع والعطش واليأس. بل إنه يعمد إلى إشاعة الفوضى من خلال تمكين عصابات الجريمة المنظمة من الاستيلاء على شاحنات المساعدات واستهداف فرق تأمينها.

وعلى الرغم من الجهود المضنية التي تبذل يوميا لإغاثة غزة، يبقى العمل الإنساني مقيدا وعاجزا في مواجهة سيطرة الاحتلال على المعابر. إن فتح المعابر هو شريان الحياة الذي يبقي غزة صامدة، لكن إسرائيل تغلق هذا الشريان متى أرادت أن تخنق الشعب الفلسطيني وتقطع عنه حتى الهواء الذي يتنفسه. ومع كل يوم يمر، يتفاقم نقص التمويل، الأمر الذي يزيد من تعقيد الوضع ويجعل المنظمات عاجزة عن تلبية الاحتياجات المتزايدة لسكان القطاع.

لم يتبدل الوضع في القطاع منذ العام الماضي، بل على العكس من ذلك، ازداد التدهور في الأوضاع الإنسانية، وتراجعت القدرة الشرائية لدى جميع فئات الشعب الفلسطيني، وترافق ذلك مع ارتفاع فاحش في أسعار السلع. ومع ذلك، هناك من اعتاد هذا المشهد المأساوي أو استنزف طاقته وبدأ ينصرف عن غزة واحتياجاتها الملحة!

اليوم، تتصدر الصحة قائمة الأولويات في غزة، فالمستشفيات تحتاج إلى الأدوية والمعدات الطبية العاجلة لإنقاذ الأرواح، وإلا فإن عدد الضحايا سيستمر في الارتفاع بشكل مأساوي. الماء والغذاء، وهما أساس البقاء على قيد الحياة، أصبحا شحيحين و نادرين. الأطفال الذين كانوا يملأون الشوارع ضحكًا ولعبًا، يعانون اليوم من سوء التغذية ويواجهون خطر المجاعة، ويُمنعون حتى من الحصول على الماء النظيف.

لذا، يجب ضمان دخول الأدوية والمعدات الطبية بشكل عاجل ومستمر عبر ممرات إنسانية آمنة ومحمية من القصف. لا يمكن أن تتوقف الحياة؛ لأن المحتل الظالم يريد ذلك. يجب توفير المستشفيات الميدانية المتنقلة لتقديم الرعاية الفورية للجرحى والمرضى، في ظل هذا النقص الحاد في البنية التحتية الصحية.

يجب العمل على تأمين الغذاء والمياه النظيفة وإعطاء هذه القضية الأولوية القصوى، فكلما تأخر وصول هذه الإمدادات، ازدادت الأزمة الإنسانية تفاقمًا. يجب على المنظمات الدولية أن تضغط على الاحتلال لإدخال المواد الغذائية بشكل مستمر ودون انقطاع. وعلى جهات إنفاذ القانون في قطاع غزة والعشائر الفلسطينية أن تعمل على القضاء على عصابات الجريمة المنظمة التي تعترض طريق الشاحنات مهما كلف الأمر، فلا يمكن السكوت على من يسرق قوت الأطفال ودواء المرضى ويحظى برعاية وحماية الاحتلال.

ختامًا، غزة، تلك الأرض الصغيرة التي أصبحت رمزًا للعالم بأسره، تعيد كتابة تاريخ الأمة. صمودها الأسطوري في وجه الحصار، وتمسكها بالحياة رغم كل الظروف القاسية، هما شهادة حية على أن العزة والكرامة لا تشترى بالمال، وأن المقاومة لا تنكسر ولا تستسلم. غزة بشعبها الحر هي الشعلة التي تضيء عتمة العالم، وهي الصوت الذي لا يخبو، وهي الأمل الذي يبقي الجميع في انتظار الفجر المشرق.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة